كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود؛ فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبًا واحدًا أحمر، وجزم الآخران أن عليه ثوبًا واحدًا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلًا أحدهما أحمر، والثاني أبيض، وذكر كل اثنين أحد الثوبين فلا إشكال في كمال شهادتهم، لاتفاق الشهادتين، وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم. فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم، لاحتمال تخالف شهادتيهما، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد، لأن الحد يدرأ بالشبهات، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه.
والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف. أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم، فإن فسروا بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم. فالظاهر أنهم يحدون حد القذف كما قدمنا. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة، فلا حدّ على المرأة إجماعًا، لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود.
قال ابن قدامة في المغني: وفي الرجل وجهان.
أحدهما: لا حدّ عليه، وهو قول أبي بكر، والقاضي وأكثر الأصحاب، وقول أبي حنيفة، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن البينة لم تكمل على فعل واحد، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع قبول الشهادة، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبًا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما، مكرهة في الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدى المطاوعة قاذفان لها، ولم تكمل البينة عليها، فلا تقبل شهادتهما على غيرها.
والوجه الثاني: أنه يجب الحد عليه، اختاره أبو الخطاب، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ووجه ثان للشافعي، لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله، فلا يمنع كمال الشهادة عليه.
وفي الشهود ثلاثة أوجه:
أحدهما: لا حدّ عليهم، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم.
والثاني: عليهم الحد، لأنهم شهدوا بالزنى، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم.
والثالث: يجب الحد على شاهدي المطاوعة، لأنهما قذفا المرأة بالزنى، ولم تكمل شهادتهم عليها، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة، وقد كملت شهادتهم على الرجل، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع، وأظهر أقوالهم عندي فيه: أن الرجل والمرأة لا حدّ على واحد منهما، وأن على الشهود الأربعة حد القذف. أما نفي الحد عن المرأة، فلا خلاف فيه، ووجهه ظاهر، لأنها لم تكمل عليها شهادة الزنى. وأما نفي الحد عن الرجل فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد، لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان، وإذ لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده الأظهر، أما وجه حد الشهود فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدًا، ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها، ولم تكمل شهادتهم؛ ولأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل، ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر، أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع. والعلم عند الله تعالى.
ومن المعلوم: أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر، فثبوت الأمرين طريقه واحدة.
الفرع الثامن: اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب، فقالت إنها عذراء لم تزل بكارتها ونظر اليها أربع من النساء معروفات بالعدالة، وشهدن بأنها عذراء مل تزل بكارتها بمزيل. فقد اختلف أهل العلم، هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء، وعبارة المدونة في ذلك: إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول فقالت: إنها عذراء ونظر إليها النساء، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقوله خليل في مختصره، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها، وذهب جماعة من أهل العلم الى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد وهو مذهب الإمام أحمد، قال ابن قدامة في المغني وبه قال الشعبي، والثوري، والشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي ووجه قول مالك، وأصحابه بأنها يقام عليها الحد، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجل عليها بالزنى، ووجه قول الآخرين بدون الإيلاج في الفرج، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنى مجبوب.
وقال ابن قدامة في المغني: ويجب أن يكتفي بشهادة امرأة واحدة، لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال، يعني البكارة المذكورة انتهى. وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حدّ عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة.
وقال صاحب المغني: وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها، ثم عادت عذرتها، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم: وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى، لظهور كذبها. لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما كما هو معلوم.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى، ووجوب الحد رجمًا كان أو جلدًا بإقرار الزاني والزانية، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات؟ فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة وابن ليلى: أن يكون ذلك في أربع مجالس، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد. وذهب مالك، والشافعي، والحسن وحماد وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة.
أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها» وفي رواية في الصحيح فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما ظاهر ظهورًا واضحًا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه فإن اعترفت فارجمها ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لابد منه لقال له صلى الله عليه وسلم: فإن اعترفت أربع مرات فارجمها، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هو معلوم.
ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبى الله أصبت حدًا فأقمه عليّ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال: «أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها» ففعل فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟: فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى» هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو نص صحيح في أنه صلى الله عليه وسلم؛ أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة لأنها قالت: إني أصبت حدًا مرة واحدة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمها من غير تعدد الإقرار لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة.
ومن أدلتهم على ذلك أيضا: ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فوالله إني لحبلى فقال «أما لا فاذهبي حتى تلدي» فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت. هذا يا نبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبى إلى الرجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر النسا فرجموها فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنصح الدم على وجه خالد، فسبها فسمع النبى صلى الله عليه وسلم سبه اياها فقال «مهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت» هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة لأن الغامدية المذكورة لما قالت له صلى الله عليه وسلم: لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، لم ينكر ذلك عليها، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطًا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته، لكونه لم يقرّ أربعًا.
وقد قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد ذكره لهذه الواقعة: وهذه من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار، ليس بشرط للتصريح فيها، بأنها متأخرة عن قضية ماعز، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي. اه منه.
وفي صحيح مسلم ايضًا من حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه ما نصه: قال ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني، فقال «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه» فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك! قال: «وما ذاك؟» قالت: إنها حبلى من الزنا، فقالت: آنت؟ قالت: نعم فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك،» قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية؛ فقال «إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه،» فقام رجل من الأنصار فقال إلى رضاعه يا نبى الله قال فرجمها، اه منه.
وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على اكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا، وأما حجة من قالوا: يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا، أن يقر به أربع مرات، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله إني زنيت يريد نفسه، فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبى صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون؟» لا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحصنت؟» قال: نعم قال: «اذهبوا فارجموه» الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه. ولفظ مسلم فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون؟» قال: لا. قال: فهل أحصنت؟ قال نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه» اهـ.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه: أي أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط، لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحدّ على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه، دليل على اشتراط الأربع المذكورة، والرجل المذكور في هذا الحديث، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات كما رأيت في الحديث المذكور آنفًا، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين.